
العثماني
1288هـ
بقلم/ جلال خالد الهارون
تمهيد:
قد يعتقد الكثيرون من مؤرخي المنطقة الشرقية، فضلا عن العامة، بأن رأس تنورة الميناء أو المدينة، ما هي إلا موقع من المواقع الحديثة التي تأسست تبعا لتدفق النفط الذي أثمر عن جهود التنقيب و توقيع اتفاقية الامتياز بين حكومة المملكة العربية السعودية ممثلة في وزير المالية السعودي الشيخ عبد الله السليمان و المستر ل. ن. هاملتون عن شركة البترول الأمريكية ستاندرد أويل أف كاليفورنيا في 4 صفر 1352هـ، لذا فمن غير المستغرب أن ينصب اهتمام المؤرخين و الإعلاميين المعنيين بمهمة إبراز تاريخ الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية على دراسة تاريخ قرى واحة القطيف المشهورة كدارين و تاروت و الفرضة (القلعة) و عنك وسيهات، في حين أن عناية هؤلاء المؤرخين قد تتسع قليلا لتغطي جزء من التاريخ الحديث و المعاصر لمدينة الدمام و الخبر و الجبيل، فالجميع سلك هذا الطريق و هذا المنهج دون شعور منه ولكن تبعا لسهولة البحث في تلك المناطق وانبهارا ببريق التاريخ البارز... خارج السياج الأمني لشركة ارامكوا ، في دارين و تاروت والقطيف... وغير ذلك، لذا اعتقد بأننا انشغلنا كثيرا عن مواقع أخرى مهمة، وأدرنا لها الظهر... بما فيه الكفاية، فهذا التاريخ المهمل مهم ومكمل في نفس الوقت للتاريخ الأول بل وجزء لا يتجزء منه، حجب هذا الجزء من التاريخ منذ عشرات السنين خلف سياج مصفاة البترول في رأس تنورة، فهل يا ترى... تستطيع هذه المقالة تجاوز ذلك السياج و الكشف عن ما غيب خلفه من تاريخ؟
نظرة عامة:
يقع ميناء رأس تنورة في الجهة الشمالية الشرقية لمدينة القطيف، و يفصل رأس تنورة عن جزيرة تاروت و ساحل مدينة القطيف، خليج شبه دائري مفتوح على الخليج من طرفه الجنوبي الشرقي المواجهه لساحل مدينة الدمام الشمالي، في حين لا يتجاوز قطر هذا الخليج سوى بضعة كيلوا مترات فقط، ويحد ميناء رأس تنورة قديما من الجهة الشمالية عين ماء رحيمه أو (أم رحيم) والتي كانت المصدر الوحيد للماء للبدو من قبيلة بني هاجر سكان تلك المنطقة في فترة ما قبل ظهور النفط، و تبعد هذه العين عن مركز الجمارك العثماني برأس تنورة محل الدراسة قرابة (2) كيلومتر تقريبا إلى جهة الشمال، كما و يحد رأس تنورة من الشمال أيضا صحراء مممتدة تكثر بها الشجيرات البرية الصغيرة المتفرقة وتقع فيها منطقة الجعيمة و قرية شعاب ([1]) وتمتد هذه الصحراء على طول الشريط الساحلي مسافة 150 كليومتر تقريبا وصولا حتى أطراف بلدة "عينين" القديمة أو ما يعرف حاليا بمدينة الجبيل، ويحد ميناء رأس تنورة من جهة الغرب خليج تاروت شبة الدائري الذي تحدثنا عنه سابقا و الذي يفصلها عن عدد من القرى التابعة للقطيف و هي مرتبة من الشمال إلى الجنوب على طول الشريط الساحلي المقابل لرأس تنورة ... وهي أولا قرية صفوى ثم قرية العوامية ثم قلعة القطيف، وجميع هذه القرى يمكن مشاهدتها بسهولة من ساحل رأس تنورة، ويقع إلى الجنوب الغربي من رأس تنورة جزيرة تاروت وبها القرى التالية مرتبة من الشمال الى الجنوب أيضا وهي ، سنابس و الزور و تاروت و الربيعية و دارين و يمكن مشاهدة هذه القرى أيضا بسهولة من شاطئ رأس تنورة، و يحد راس تنورة من جهة الشرق الخليج العربي. و من الجدير بالذكر ايضا وجود جزيرة صغيرة تابعة لرأس تنورة تسمى حالة زعل و تقع إلى الشمال الغربي من رأس تنورة لا يفصلها عن هذا الرأس سوى عشرات الأمتار كما هو موضح بالخريطة التالية.
كانت رأس تنورة قبل ظهور النفط خالية من السكان، وذلك إذا ما استثنيا الموظفين الترك العاملين في ميناء رأس تنورة العثماني، مضافا إليهم مجموعة صغير من عشيرة المسارير فرع من بني هاجر شبه المستقرين بالقرب من عين أم رحيم (رحيمة) حيث كان يوجد لهم بها قديما مسجداً صغيراً ومساكن مؤقتة يسكنون فيها في فصل الربيع، وأما في فصل الصيف فكانوا يسكنون في مساكنهم الثابتة في بلدة دارين و بلدة الزور، علما بان سكن بني هاجر هؤلاء في راس تنورة لم يكن قديما و سابقا للعام 1288هـ، حيث تذكر الوثيقة العثمانية المحررة بتاريخ 12 ربيع الأول 1288هـ النص التالي ([2]):
(بعد الوصول إلى رأس تنورة في يوم الخميس 4 ربيع الأول 1288هـ و الخروج إلى البر تم التوجه إلى رحيمه إلا انه لم يستقر هناك لعدم وجود مبان سكنية رغم وجود المياه الصالحة للشرب وأنهم لم يشاهدوا واحدا في رحيمة، وافاد انه استمر في الزحف نحو القطيف ...)
ومن كبار هذه الأسرة حاليا الشيخ سلطان بن درويش آل مسارير الهاجري المقيم حاليا في مدينة رحيمة ([3])، في حين كان يعقد في رأس تنورة سوق موسمي للبدو يبيعون به منتجاتهم البسيطه كالاغنام و الدهن و الاقط و الصوف... وغير ذلك، وربما كان وقت انعقاد هذا السوق في فصل الربيع من كل عام حيث انه ومن المشهور نزول الحضر من أهالي دارين إلى راس تنورة في فصل الشتاء و الربيع لتنزه و جمع الفقع (الكماء) و صيد الطيور و الأرانب البريه بالبنادق و الحبال بنصب الفخاخ، كما ويوجد على ساحل رأس تنورة عدد محدود من الحضور الخاصة بصيد الأسماك والتي من أشهرها حضرة ناصر بن لحدان الفيحاني، فهذا باختصار شديد ما كانت عليه رأس تنورة قديما.
النشأة و التسمية:
عرفت منطقة رأس تنورة بهذا الاسم قبل أكثر من 500 سنة على اقل تقدير فمنطقة رأس تنورة في حقيقتها أقدم بكثير من مناطق ومدن خليجية أخرى حديثة كالدمام و الكويت و دبي ...الخ تأسست في وقت متأخر جدا مقارنة بمنطقة رأس تنورة التاريخية، حيث وقفنا على ذكر الاسم رأس تنورة في العديد من الخرائط الأوربية القديمة التي يزيد عمرها على 500 سنة تقريبا و من تلك الخرائط خريطة هولندية لملاح هولندي يدعى "نسخوتن" وضعها قرابة عام 1596م وهذه الخريطة لا تزال محفوظة في مكتب محفوظات أرشيف الدولة العامة في هولندا ([4])، و كان الاسم كما ورد في الخريطة (Tenora) ويقع كما هو محدد في الخريطة جهة الشمال من بلدة القطيف.
خريطة هولندية رسمت عام 1596م ورد فيها اسم رأس تنورة
وأما بخصوص أصل إطلاق التسمية "رأس تنورة" فالتسمية مكونة من شقين الأول "الرأس" و هي كلمة درج استخدامها في منطقة الخليج العربي لوصف أي لسان ترابي أو صخري يمتد وسط مياه الخليج مشكلا لسان أو ذراع من اليابسة، ومن أمثلة ذلك رأس تنورة و رأس الحد و رأس بوعلي و رأس ركن ... وغير ذلك وبما أن هذه التسمية مرتبطة بالسواحل لذا فنعتقد بان مصدر إطلاقها البحارة في منطقة الخليج، وأما بخصوص الشق الثاني من التسمية و هي كلمة "تنورة" فهو نسبة إلى وجود دوامة بحرية أشبه ما تكون بالفرن (التنور) وذلك في موقع ما بالقرب من نهاية حافة الرأس الجنوبية لذا كانت البحارة تتحاشى الاقتراب من هذه المنطقة أو التنور([5])، و إثباتا لوجود هذا "التنور" وحذر البحارة منه نستطيع الاستشهاد بهذا النص نقلا عن مخطوطة "مجاري الهداية" والتي جاء فيها نص التحذير التالي:
"من رأس الجعيلية إلى رأس تنورة المجرى في مطلع الإكليل، إلى أن يصبح عمق البحر 11 – 12قامة، وهنا غير في المجرى إلى ما بين مطلع العقرب و الحمارين، وستشاهد رأس تنورة وهو بندر يحميك من جميع العواصف، واستعمل فيه مرساة غربية لأن البندر قاعه رملي. أما في رأس الماشيه وهو صخري مغطى بالرمل فالتيار فيه قوي جدا، فاحذر الاقتراب من رأس تنورة و أنت في مجراك" ([6]).
مبنى الميناء العثماني:
يعتبر مبنى الميناء العثماني في رأس تنورة أهم معلم تاريخي في بلدة راس تنورة قبل إزالته حاليا، و كان يقع تحديدا في منتصف الساحل الغربي للرأس الترابي المسمى برأس تنورة و تتجه واجهة المبنى صوب جزيرة تاروت، و كثيرا ما تردد ذكر هذا المبنى في العديد من الوثائق العثمانية و الانجليزية، ومن ذلك وصف المؤرخ الانجليز ج. ج. لوريمر له بالنص التالي ([7]):
(رأس تنورة كان يوجد بها مرفأ كانت تستعمله الحكومة التركية عند زيارة قواربها للقطيف، وقد احتفظ الأتراك بمحطة للوقود قريبا من المرفأ).
و من خلال استعراض الدكتور عبد الله بن ناصر السبيعي لعدد كبير من الوثائق الواردة في كتابه المسمى "الحملة العسكرية العثمانية" والذي تحدث فيه تفصيلا عن أخبار الحملة العثمانية المرسلة إلى القطيف و الاحساء عام 1288هـ، نستطيع أن نستنتج من هذا الكتاب الاسباب الرئيسية التي دفعت الحكومة التركية إلى إنشاء هذا المبنى في راس تنورة عام 1288م، حيث أن الدكتور السبيعي كان يذكر بان الوالي أحمد مدحت باشا واجه العديد من الصعاب أثناء عملية نقل الجنود من الكويت إلى القطيف وكانت أهم هذه الصعاب الأمور التالية:
1. انتشار مرض الكوليرا و الملاريا في القطيف وقت وصول الحملة العثمانية مما أعاق إمكانية دخول الجيش للبلدة، وبالتالي نتج عن ذلك تفكير أحمد مدحت باشا في إنشاء بلدة جديد للقطيف تكون بجوار بلدة القطيف القديمة ([8]).
2. صعوبة وصول السفن الحربية العثمانية الكبيرة إلى موانئ القطيف بسبب ضحالة المياه، مما اضر الوالي إلى إبقاء السفينة الحربية الكبيرة "بابل" بالقرب من سواحل رأس تنورة و الاقتراب من موانئ القطيف بالسفن الصغيرة([9]).
كل هذه الأسباب وغيرها قادة الوالي العثماني إلى الالتفات والتفطن إلى أهمية موقع رأس تنورة كموقع مميز لإنشاء ميناء جديد عسكري و تجاري يخدم منطقة القطيف وربما كان المشروع طموحا بشكل اكبر من ما تم تنفيذه على ارض الواقع حيث انه من الممكن ان تكون الخطة هي إنشاء ميناء ومدينة حديثة لإقامة كبار التجار التابعين لقضاء القطيف فيها بدل من المدينة التي تقرر إنشاءها بالقرب من القطيف القديمة، وبالفعل أتم العثمانيون إنشاء المبنى العثماني محل الدراسة، لكن لم يتم إنشاء شيء أخر غيره في رأس تنورة.
أحمد مدحت باشا والي البصرة
أجزاء مبنى الميناء برأس تنورة:
من السهل جدا دراسة الأجزاء الرئيسية للمبنى من خلال دراسة الصور الفوتوغرافية المتوفرة لدينا لهذا المبنى و التي توضح أن هذا المبنى مكون من مبنى مستطيل الشكل عرضه قرابة الأربعة (4) أمتار تقريبا و طوله قرابة العشرين (20) مترا مكون من طابقين، الضلع الطويل لهذا المبنى يفتح ناحية الشرق مستقبلا جزيرة تاروت و بلدة القطيف، ويقع في منتصف الضلع الطويل لهذا المبنى مدخل مربع الشكل عرضه ثلاثة أمتار وهو عبارة ليوان في الطابق الارضي يمثل المدخل و غرفة في الطابق الثاني، و يتصل هذا المبنى من الجهة الجنوبية له بمنى أخر كبيرة، مستطيل الشكل أيضا عرضة قرابة الخمسة عشر (15) مترا و طوله قرابة الخمسة و الثلاثون (35) مترا تقريبا، مكون من طابق واحد فقط، كما هو موضح في الصورة رقم (1) المرفقة أدناه.
صورة مرفأ رأس تنورة العثماني من جهة البحر
وقفنا أيضا في مكان أخر على تفاصيل ومكونات هذا المبنى، في أحد المصادر التاريخية المتضمنة وصفا دقيق إلى حد ما، نقلا عن الوثائق العثمانية المحررة عام 1288هـ وبالنص التالي ([10]):
(وكان أحمد مدحت باشا يعتقد أن أهم ما يجب عمله هو الأهتمام بموانئ المنطقة و البدء بإنشاء مستودع للفحم الحجري و مستودع للعتاد و المهمات العسكرية ومساكن للجنود في ميناء رأس تنورة التي يرى أهميتها الإستراتيجية، وانه تنقصها توفر الماء العذب مما جعل الخيار المتاح للعثمانيين هو سحب الماء من عين رحيمة التي تبعد مسافة ثلاث ساعات أو تحلية الماء بواسطة آلة تستورد لهذه الغاية).
بالفعل تم مباشرة عملية البناء في هذا المشروع قرابة عام 1288هـ و الانتهاء منه ربما منتصف او نهاية العام 1289هـ، كما ونعتقد بان فرقة البناءون التي ورد خبر تواجدها مع الجيش العثماني هي من قام بالعمل و أتمام البناء، فاني كمهندس معماري لاحظت تميزا في هذا المبنى من حيث الدقة في البناء و اختلاف الطراز المعماري جذريا عن باقي الأنماط المعمارية السائدة في مباني تلك الفترة، فقد كان هذا المبنى يحتوي على بلكونات أو شُرف خارجية تطل على الساحة الأمامية للميناء تحتوي على موانع مصنوعة من الحديد المشغول وهذا الطراز لم تعرفة المنطقة ولكنه طراز مشهور ربما في مناطق أخرى غير القطيف كالبصرة وبغداد و الشام، كذلك نظافة واستواء التكسيه الخارجية لجدران الواجهه، مع وجود شعار الدولة العثمانية المتمثل بالنجمة والهلال أعلى مدخل مبنى الميناء، بالاضافة الى تصميم المستودع الكبير الذي من الواضح ان تقنية تغطية السقف الخاص به كانت بتقنية بناء متقدمة، كل هذا يدفعنا إلى التفكير في أمور عده منها مهارة البناءون، ومدى الإصلاح والتجديد الذي كانت تود الدولة العثمانية تجسيده في هذا المبنى، على كل حال النص السابق قسم مبنى ميناء رأس تنورة إلى الأجزاء التالية:
1. مستودع للفحم الحجري.
2. مستودع للعتاد.
3. مركز لإدارة المهمات العسكرية.
4. مساكن للجنود.
5. آلة تحلية الماء.
6. موقع رفع العلم العثماني أعلى مدخل الميناء.
مكونات المبنى الرئيسية:
1. المستودع الكبير:
من الواضح جدا في الصور احتواء مبنى المرفأ على مستودع تقدر مساحته الإجمالية بـ 200 متر مربع وهذا يتضح لنا من النسبة و التناسب في أبعاد تلك الصورة، و يلاحظ كذلك من طريقة التصميم أن هذا الجزء الخلفي من مبنى المرفأ كان بالفعل مستودعا نظرا لعدم تواجد النوافذ إلا في الجزء العلوي منه، و هذا دليل على اقتصار استخدام النوافذ في عملية الإضاءة فقط، كما ان ارتفاع النوافذ بهذه الكيفية يحد من إمكانية تسلل اللصوص، ومن نص الوثيقة العثمانية المشار إليها أعلاه نعلم بان هذا المستودع كان يحتوي على، كميات كبيرة من الفحم الحجري و عدد أخر من المعدات الحربية، وهذه المعدات نعتقد بأنها عبارة ذخيرة و أسلحة و أدوات أخرى متنوعة خاصة بالسفن العثمانية كقطع الغيار مخصصة لصيانة السفن البخارية والتي منها المركب البخاري "زحاف" و "مريخ" التي كانت تخدم في هذه المنطقة للتأكد من تقيد السكان بالأوامر العثمانية و التأكد من استمرار رفع العلم العثماني على المباني الإدارية بمختلف المدن والقرى، كما و كان هذا المستودع يحتوي أيضا على كميات من الزيوت و الحبال و المؤن الغذائية التي تحتاج إليها، السفن العثمانية، بالإضافة إلى بعض البضائع و البريد وما إلى ذلك.
الواجهة الأمامية لمبنى الميناء في رأس تنورة
2. مركز لإدارة المهمات العسكرية:
نعتقد بان مركز إدارة المهمات العسكرية و التي تعني هنا مكاتب للضباط و مدير الميناء... الخ كانت في المبنى المستطيل المكون من طابقين حيث توجد في الطابق الأرضي، غرفتين تتسع كل غرفة لثلاثة أشخاص كحد أقصى، كما و يوجد في الطابق الثاني أيضا ثلاث غرف أخرى تتسع كل غرفة أيضا لثلاثة أشخاص، وعليه يكون أجمالي عدد الإفراد العثمانيون العاملين في هذا المبنى قرابة (15) فردا.
3. مساكن للجنود:
لا يوجد على ساحل رأس تنورة سوى هذا المبنى لذا لا نعتقد بان الدولة العثمانية أتمت إنشاء هذه الجزء من المشروع حيث أن مبنى كهذا قد يتسع لـ 15 فردا لبد لهم من توفر مساكن تحتوي على غرف للنوم و مطبخ كبير لخدمة جميع الإفراد ودورات مياه، وكل ذلك لا يمكن أن يتوفر في مبنى الميناء محل الدراسة، لذا نعتقد بان الدولة العثمانية اكتفت بتقسيم ساعات الخدمة بين صباحية و مسائية في حين يكون مكان إقامة الجنود على الساحل المقابل أما في قلعة دارين أو قلعة القطيف، وعليه يمكننا تخيل منظر الجنود وهم ينتقلون في سفينة صغيرة نهاية ساعات العمل إلى جزيرة تاروت للاستحمام في "حمام باشا" ثم الانتقال إلى قلعة دارين للاستراحة.
4. مكان رفع العلم العثماني:
قبل أن ابحث في موضوع هذا المبنى كنت قد قراءة نصا تاريخيا منشورا في مجلة الواحة ([11]) يحتوي على الخبر التالي:
(ميناء رأس تنورة الذي كان في طليعة اهتمام المسّلحين، شهد إنزالا بريطانياً شبه عسكري، قبل سنوات قلائل من المسح نفسه، حيث رست سفينة حربيّة ورفعت العلم البريطاني وتقدّمت بعروض الحماية للأهالي من غائلة البادية ومن الحكم العثماني نفسه، لكن الزعماء السياسيين والدينيين رفضوا العرض، وتوجّه بعض الأهالي إلى رأس تنورة وحطموا سارية العلم).
عند قراءتي لهذا النص لأول مرة قبل بضع سنين والذي كان يتحدث عن رفع الانجليز للعلم البريطاني في رأس تنورة خلال الأحداث التي رافقت ثورة البدو وحصارهم للقطيف قرابة عام 1326هـ، كنت أتصور أن السفينة البريطانية رفعت العلم البريطاني على الكثبان الرملية في رأس تنورة، و لكني اليوم وبعد كتابة هذا البحث أصبحت اعلم بان العلم رفع على مدخل مبنى ميناء رأس تنورة في الموقع الواضح في الصورة رقم (2)، ومن ذلك نستطيع معرفة موقع الصارية المخصصة لرفع العلم العثماني، الواقعة تحديدا أعلى مدخل الميناء مباشرة.
موظفو ميناء رأس تنورة العثماني:
كان من أشهر الموانئ العثمانية الهامة في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية ميناء العجير و القطيف ثم يأتي في المرتبة الثانية ميناء دارين و ميناء الزبارة و ميناء الدوحة وميناء رأس تنورة، وكانت هذه الموانئ تدار من قبل مجموعة إفراد من أهمهم التالي:
1. مدير الميناء:
مدير الميناء أو (ليمان دائرة سي) وفقا للغة التركية، ويشترط في مدير الميناء أن يكون مجيدا للغة العربية مع سابق الخبرة في أعمال إدارة الموانئ، وتنحصر مهمة هذا المدير في الأشراف على الميناء وتفتيش الأجانب القادمين و المسافرين عامة و صرف تصريحات السفر التي يفرضها النظام العثماني على كافة المسافرين وكانت قيمة تلك التصريحات في اللواء روبية هندية([12]).
2. رافع العلم:
يذكر الدكتورعبد الله ناصر السبيعي في كتابه "الحكم و الإدارة في الاحساء و القطيف و قطر" بان الحكومة العثمانية عينت في كل ميناء رئيسي موظف مختص مهمته رفع العلم العثماني في أيام العطل و الأعياد الرسمية([13])، ووفقا لرواية أخرى محلية يذكر بأن العلم العثماني كان مرفوعا أيضا على برج "ابو الليف" الواقع في الخليج الصغير المحصور بين جزيرة تاروت و القطيف، وكان على البحارة الانحناء حال الاقتراب من العلم العثماني و من لا يفعل ذلك تتم معاقبته، وربما الشيء نفسه كان يحدث حال الاقتراب من العلم العثماني في مبنى رأس تنورة ([14]).
3. مأمور الكمارك:
يوجد في كل ميناء مأمور جمارك مهمته تحصيل الرسوم الجمركية، ويساعده في أداء هذه المهمة أمين الخزينة و كاتب و حراس و سعاة بريد.
مأمور الحجر الصحي:
يسمى الحجر الصحي في تلك الفترة " الكورنتينا" وكانت مهمة المأمور الصحي منع الزوار و المغادرين من الميناء في حالة اجتياح البلاد وباء ما كالكوليرا أو الطاعون، كما ويوجد في الميناء أيضا صيدلية للقيام بالإسعافات الأولية في تلك الموانئ لخدمة السفن العثمانية و المسافرين المارين بتلك الموانئ.
مأمور المستودع:
يوجد أيضا في كل ميناء مسئول إداري رفيع المستوى توكل إليه مهمة إدارة المستودعات التابعة للميناء، هذه باختصار شديد أهم الوظائف التي يشترط توفرها في أي ميناء عثماني في تلك الفترة وعليه كانت متوفرة أيضا في ميناء رأس تنورة محل الدراسة.
أهم الأحداث التاريخية التي وقعت بالقرب من رأس تنورة:
من ابرز الأحداث التاريخية التي وقعت بالقرب من سواحل رأس تنورة وسجلها لنا التاريخ معركة حدثت عام 1112هـ بين عرب العتوب و الهوله بالقرب من جزيرة البحرين وخلال هذه المعركة انهزم العتوب ([15]) أولا إلى رأس تنورة وطاردتهم سفن عرب الهوله ([16]) و آل مسلم إلى رأس تنورة و اشتبكت الطائفتين في رأس تنورة و بعدها فر العتوب إلى بندر الديلم على الساحل الفارسي ثم إلى البصرة و استقروا أخيرا في بلدة القرين شمال الخليج و أسسوا هناك بلدة الكويت التي تطورت عنها الدولة الحديثة.
وأما الحدث الآخر فهو مقتل الشيخ سلطان بن سلامة زعيم عشيرة آل بن علي في ميناء رأس تنورة على يد جماعة من قبيلة العمامرة فرع من قبيلة الدواسر في البحرين، وقصة هذه الحادثة و باختصار شديد... تعرضت عشيرة آل بن علي المقيمة في ميناء الزبارة العثماني شمال دولة قطر للقصف من قبل البوارج الانجليزية بقيادة الكابتن كاسكين عام 1113هـ، مما اضطر الشيخ سلطان بن سلامة البنعلي السفر إلى القطيف ومقابلة القائم مقام العثماني هناك و خلال هذه السفرة حصل الشيخ سلطان على خطاب يتضمن ما تعرضت له عشيرة آل بن علي من قتل و تشريد على يد السلطات البريطانية خلال تلك الأحداث، وكان من المقرر سفر الشيخ سلطان إلى البصرة لإيصال تظلمات عشيرته إلى مسامع الباب العالي و في إثناء سفره هذا مر بميناء رأس تنورة محل الدراسة بقصد الاستراحة و قضاء بعض الحاجيات الضرورية اللازمة للسفر، ووفقا لرواية نادرة جدا نوردها هنا إتماما للفائدة، تفيد الرواية بان البدو كانوا يعقدون سوقا لهم بالقرب من مبنى الميناء برأس تنورة، يبيعون فيه الأغنام و الدهن و الصوف، للسفن المارة، وبينما الشيخ سلطان يتجول في هذا السوق لقضاء بعض الحاجيات، كانت عيون اثنان من رجال آل عمار ترصده، وهؤلاء كانوا محمد بن ماجد العماري و ابن أجبال العماري، و ما أن سنحت لهم الفرصة حتى صوبوا بنادقهم إلى الشيخ سلطان البنعلي أطلقوا عليه النار و أردوه قتيلا ([17]).
نهاية الميناء العثماني بإنشاء مصفاة البترول:
ظل هذا المبنى سليما حتى بعد استيلاء الملك عبد العزيز آل سعود على الاحساء و القطيف عام 1331هـ، حيث جاء وصف هذا الميناء قرابة عام 1357هـ زمن الملك عبد العزيز بالنص التالي ([18]):
(وقبل ثلاث سنوات كان صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود منهمكا لبناء رصيف للسفن في رأس تنورة ليتم فيه تفريغ البضائع التجارية التابعة للقطيف و نجد بشكل مباشر، وقام بحفر بئر ارتوازي هناك، بعد ذلك لا علم لدي هل تم الانتهاء من أعمال التشيد في ذلك الميناء و هل أصبح جاهزا أم لا....)
وبعد أن تم اكتشف البترول في المملكة العربية السعودية عام 1357هـ، وقع الاختيار على ميناء راس تنورة ليكون ميناء مجهزا لتصدير النفط الخام الى مختلف دول العالم وفعلا استكمل هذا الميناء و تم تصدير أول شحنة من الزيت الخام منه على الناقلة "د. جي. سكوفيلد" في 11/03/1358هـ وبذلك انتهى ميناء رأس تنورة العثماني ليحل مكانه ميناء رأس تنورة السعودي الذي يضم حاليا اكبر مصفاة نفط في العالم ([19]).
أول زيارة للملك عبد العزيز لميناء راس تنورة
الهوامش:
[1] . شعاب، بلدة قديمة اسسها البداء من العجمان و المرة و القحاطين و الهواجر، انظر هذه بلادنا راس تنورة، صالح محسن القعود، ط1 1411هـ، الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ص46.
[2] . الحملة العسكرية العثمانية على الأحساء و القطيف وقطر 1288هـ-1331هـ، تاليف د. ناصر عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطابع الجمعة الالكترونية، ص 74.
[3] . رأس تنورة الماضي و الحاضر، صالح محسن فهد القعود، الطبعة الأولى، جمادي الأولى 1410هـ، مطابع الصناعات المساندة بالجبيل، ص31.
[4] . نشاة الكويت، ب. ج. سلوت، مركز البحوث و الدراسات الكويتية، الطبعة الاولى 2003م دولة الكويت، ص 33.
[5] . هذه بلادنا راس تنورة، تاليف صالح بن محسن القعود، الطبعة الاولى 1991م، الرئاسة العامة لرعاية الشباب، الرياض، ص15.
[6] . مجاري الهداية "النايلة"، للربان راشد بن فاضل البنعلي، تحقيق و معالجة د. جاسم الحسن، ودراسة د. انور عبد العليم، الطبعة الثانية، 1994م، مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، دولة قطر، ص 114.
[7] . دليل الخليج، القسم الجغرافي، الجزء السابع، تاليف: ج. ج. لوريمر، قسم الترجمة بمكتب صاحب السمو امير دولة قطر، صفحة 2446.
[8] . الحملة العسكرية العثمانية على الأحساء و القطيف وقطر 1288هـ-1331هـ، تاليف د. ناصر عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطابع الجمعة الالكترونية، ص 131.
[9] . الحملة العسكرية العثمانية على الأحساء و القطيف وقطر 1288هـ-1331هـ، تاليف د. ناصر عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطابع الجمعة الالكترونية، ص 130.
[10] . الحملة العسكرية العثمانية على الأحساء و القطيف وقطر 1288هـ-1331هـ، تاليف د. ناصر عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطابع الجمعة الالكترونية، ص 137.
[11] .مجلة الواحة، متابعة الدور البريطاني بشأن موقعة الشربة وحصار القطيف 1908م، العدد الأول.
[12] . الحكم والادارة في الاحساء و القطيف و قطر اثناء الحكم العثماني الثاني 1288هـ - 1331هـ، تاليف عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطبعة الجمعة الالكترونية. ص 215.
[13] . الحكم والادارة في الاحساء و القطيف و قطر اثناء الحكم العثماني الثاني 1288هـ - 1331هـ، تاليف عبد الله ناصر السبيعي، الطبعة الأولى 1420هـ، مطبعة الجمعة الالكترونية. ص 216.
[14] . رواية خليفة بن احمد السادة، نقلا عن لفظ المرحوم أحمد بن هارون من اهالي دارين عاصر تلك الفترة و تحدث عنها.
[15] . العتوب تحالف مجموعة من العشائر من اشهرها آل خليفة و ال صباح و آل جلاهمة و آل بن علي (سليم و المعاضيد) و آل رومي و آل غانم و آل قناعي وغيرهم.
[16] . الهوله تحالف مجموعة من العشائر من اشهرها القواسم و آل علي و آل حرمي و آل عبيدلي و آل نصوري و آل مالكي و آل تميمي و آل مرزوقي.
[17] . قلائد النحرين في تاريخ البحرين، تاليف ناصر بن جوهر الخيري، تقديم ودراسة عبد الرحمن عبد الله الشقير، دار الايام للنشر، مملكة البحرين، الطبعة الأولى 2003م، صفحة 401، بالإضافة إلى رواية رجال من عشيرة آل عمار.
[18] . موانئ و جزر الخليج الفارسي، تاليف احمد فرامرزي، ترجمة وتحقيق واخراج، الدكتور صادق الشريف العسكري، دار التعريب – دبي، الطبعة الاولى، صفحة 25.
[19] . راس تنورة الماضي و الحاضر، صالح عبد المحسن القعود، الطبعة الاولى 1410هـ، مطابع الصناعات المساندة، بالجبيل، ص 40.